الموضوع

المنشورات
نشرت من قبل None في 26/04/2020 - 8:30 م

رامي بن علي (المرصد التونسي للمياه)

في 26 أفريل 2020


توالت النظريات والاصلاحات التي روجت لها الحكومات المتعاقبة في قطاع المياه في تونس دون نتيجة تذكر، بل فقد تفاقمت أزمة العطش وصارت وبالا على الشعب خاصة في ظل انتشار فيروس كورونا الذي كان من الأجدر تأمين الامدادات المائية لكافة المواطنين في إطار معاضدة جهود مقاومة هذه الجائحة. لكن وزير الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية كان سيد الموقف واهتدى رشده الى الترفيع في سعر الماء الصالح للشرب ارضاء للمؤسسة الألمانية للقروض من أجل اعادة الاعمار وتكريسا لاستراتيجية الخصخصة التي جاء بها مشروع مجلة المياه لسنة 2019 تحت املاءات وتوصيات البنك الدولي.

 

الحق في الماء: تكريس للجانب الاجتماعي والحقوقي ضمن المواثيق الدّوليّة

 

 

يعتبر قطاع المياه احدى أهم القطاعات الحياتية التي تمس جميع الجوانب الاقتصادية ويرتبط بكل أهداف التنمية، ووفقا لما يدركه الكثير منا تمثل المياه أحد أهم التحديات التي تواجه خيارات وسياسات اقتصادية بحتة, في حين تم اقرار المياه كحق منذ زمن بعيد والتخلي عن الفكرة الكلاسيكية التي انبنت على السلعنة والاستهلاك وتمّ اضفاء الجانب الاجتماعي، إذ جاء ضمن التعليق العام رقم 15 للجنة الامم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تحت عنوان الحق في الماء  بأن " الماء يعد عنصرا أساسيا للتمتع بحياة كريمة وعاملا حيويا لإعمال العديد من الحقوق الأخرى مثل الحق في الصحة والحياة والتمتع بمستوى معيشي  لائق ومع أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لم يأت على ذكر هذا الحق صراحة الا أنه جزء أساسي لضمانإاعمال الحق في مستوى معيشي مناسب".[1] هذا وقد كانت البلاد التونسية ضمن الدول التي انخرطت في المنظومة الواسعة لحقوق الانسان لكن لم يتبوأ الحق في الماء مكانة هامة لما تم الاتفاق عليه أو ما احتوته السياسات العامة للدولة حيث عملت جميع الحكومات المتعاقبة على توسيع الهوة بين ماهو مندرج ضمن الاتفاقيات الحقوقية والواقع الذي يعيشه قطاع المياه والذي يشهد أزمة حقيقة مهدت له أن يكون مرتهن لاملاءات الأطراف الخارجية أمام أنظار الدولة التي فقدت سيادتها عليه.

في مقابل ذلك وعلى المستوى العالمي دعت معظم المنظمات الى توفير الامدادات المائية باعتبارها العنصر الأول والرئيسي للتوقّي من هذه الجائحة حيث عبرت لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا أن توفير المياه المأمونة والكافية والموافق الصحية والنظافة أمر أساسي لحماية صحة الانسان أثناء تفشي وباء كورونا ودعت الى تفعيل المادة 8 من البرتوكول الأوربي الذي يجمع بين البعدين البيئي والصحي ودعم البلدان في هذه الوضعية بتوفير خدمات المياه والصرف الصحي للجميع بما في ذلك المدارس ومرافق الرعاية الصحية والمجتمعات المحلية . كذلك منظمة اليونيسيف العالمية أوضحت في بيان لها بتاريخ 13 مارس 2020 أن غسل اليدين بالماء والصابون، عند القيام به بشكل صحيح، أمر بالغ الأهمية في الوقاية من الفيروس المستجد. ونددت بأن الملايين من الناس لا يستطيعون الوصول الى مكان لغسل أيديهم إذ أنّ فقط 3 أشخاص من أصل 5 أشخاص في جميع أنحاء العالم لديهم مرافق أساسية وصحية. وكجزء من مكافحة الوباء، قدّم المجلس العالمي للمياه الصابون إلى الدولة السنغالية التي تقوم بعمليات توزيع الضروريات الأساسية. وأفاد أن الماء والصابون هما حاجزان أساسيان للحماية من انتشار COVID-19 وقد اختار المجلس العالمي للمياه توفير الوسائل اللازمة لتحسين النظافة الصحية لأكثر الناس حرماناً. وتم توفير ما يقرب من 000 80 شريط صابون تم إنتاجها في داكار إلى الدولة السنغالية. بتاريخ 10 أفريل2020، كما أكد مامادو ديا محافظ المجلس العالمي للمياه ممثل ً الرئيس لويك فوشون، أن دولة السنغال شريكة للمجلس العالمي للمياه في تنظيم المنتدى العالمي التاسع للمياه المقرر عقده في الفترة من 22 إلى 27 مارس 2021. وأضاف "إنها بادرة تضامن صغيرة ولكنها رمزية"، مشددا على حقيقة أن "المياه هي الحياة وأنه خلال هذا الوباء تساعد المياه المقترنة بالصابون على الحفاظ على الحياة".

صور لتجارب مقارنة حول العالم

 

هشاشة المنظومة المائية وغياب استراتيجيّة يحسمها قرار وزير الفلاحة

 

 

ان هشاشة المنظومة التي يقوم عليها قطاع المياه كانت نتيجة لغياب استراتيجية واضحة ودقيقة تحمل رؤية وطنية في التعامل مع ادارة المواد المائية واستغلالها على الوجه الأفضل. ومنه تفاقمت الاشكاليات وتعددت وكان أغلبها ما أتى على الجانب التقني كاهتراء الشبكات المائية والاضطراب في توزيع المياه وكثرت الانقطاعات التي اجتاحت جل مناطق البلاد في الأونة الأخيرة. وفي ظل تردي الخدمات المائية كان تعامل وزارة الفلاحة والصيد البحري والموارد المائية متغاضيا عن الأسباب الحقيقية والوقوف على هوامش الأزمة في محاولات الاصلاح التي أصبحت تشكل عبأ على المواطن وتهدد وضعيته المالية دون نتيجة تذكر. والتي كان أخرها قرار وزير الفلاحة القاضي بالترفيع في تسعيرة الماء الصالح للشرب بتاريخ 06 أفريل 2020 وحيث ورد ضمن القرار أن الزيادة تقدر بقيمة 170 مليم للمتر مكعب في وقت تشهد فيه البلاد وضعا وبائيا استثنائيا تتطلب الوقاية منه امدادات مائية بدرجة أولى. لكن ككل مرة، تعمل الدولة على استثمار الأزمات فبعد إقرار الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بتأجيل استخلاص فواتير الاستهلاك لمدة ثلاثة أشهر يأتي قرار وزير الفلاحة الجائر وهو في حقيقة الأمر امتثالا للتوصيات الأجنبية والجهات المانحة للقروض.

هذا ما أدخل قطاع المياه ضمن سلسة لامتناهية من الإجراءات الفاشلة اهتدت اليها الهياكل المتداخل في ذات القطاع, حيث قامت لجنة المالية والتخطيط والتنمية في سنة 2017  اعداد مشروع قانون يتعلق بالموافقة على عقد القرض بتاريخ 25 سبتمبر 2017 بين الجمهورية التونسية والمؤسسة الألمانية للقروض من أجل اعادة الاعمار لتمويل برنامج دعم الاصلاحات في قطاع المياه الذي يهدف الى دعم تنفيذ جملة من الاصلاحات الخصوصية في قطاع المياه من أجل تحسين القدرة على انجاز استثمارات جديدة والحفاظ على ديمومة الاستثمارات المنجزة في القطاع المذكور[2] كما جاء ضمن وثيقة التقرير.

هذا المقترح وجهت اليه عديد الانتقادات من قبل نواب المجلس الذي اعتبروه من القروض الاستهلاكية وفي حقيقته موجه الى دعم ميزانية الدولية وليس للاستثمار في قطاع المياه. ومن ناحية أخرى ومما لا يدعو للشك أن هذا القرار له اثار سلبية ووخيمة على الفئات الاجتماعية الهشة والتي تمثل الطبقة العريضة للمجتمع ما انفكت الحكومات المتعاقبة تواجهها بسياسة التفقير والتهميش وادخالها في موازنات لصالح أصحاب رؤوس الأموال تماشيا مع مقتضيات السوق. وعند البحث عن أسباب الزيادة في سعر الماء، تعلل وزير الفلاحة باختلال التوازنات المالية للشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه لكن يبدو أن الوزير لم يطلع على القانون المتعلق بالترخيص للدولة في الترفيع في الاموال لفائدة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه الذي جاء ضمن منطوقه "يرخص وزير المالية القائم في حق الدولة الترفيع في الاموال المخصصة للشركة المذكورة بمبلغ قدره ستمائة وواحد وأربعين مليون ومائتي ألف وثمانية وعشرون دينار(641200028 د)". هذا القانون من شأنه أن يبرهن على التصورات والمنحى التي اتخذته حكومة يوسف الشاهد ومن أتى بعده وهي تحرير الخدمات المائية وجعلها تتماشى مع اقتصاديات السوق العالمية لكن رأى بعض الباحثين في هذا السياق أنّ إدخال الحلول القائمة على التوجّه إلى السوق مثل أنظمة الخدمة المدفوعة مقدمًا قد نالت ترويجًا وتعزيزًا عدائيًّا من الجهات المانحة تحت مسمّى تعضيد المؤسّسات والاستدامة المالية في قطاع المياه والصرف الصحي، وهو ما أدّى في بعض الأحيان إلى تغلغل سبل الفساد التي أتت على الفرص الحقيقية لحصول الناس على هذا المورد وَفق الأسس القانونية والحقوقية المبرمة[3].

 

التّرفيع في سعر الماء خطوة نحو الخصخصة ودعم لاقتصاد السوق

 

 

يمثل قرار التّرفيع في سعر المياه إجراء استباقيا لاستكمال منظومة الخوصصة الذي انبنى عليها مشروع مجلة المياه الجديد تحت رؤى وخيارات اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق. لكن التفريط في المرافق العمومية خصوصا قطاع المياه ليس بالأمر الهين باعتباره عنصرا حياتيّا محددا للبقاء. لذلك صارت الخصخصة عند شعوب كثيرة واقعًا كابوسيًّا يلمُّ بمفردات حياة الفئات العريضة من هذه الشعوب التي تتكالب عليها عواملُ التسلّط والحرمان من الداخل والخارج. نراها تزحفُ على حقوق الإنسان، متنقّلةً في مراحلها من مشاريع إلى موارد إلى حقوق لا تنفصلُ عن حياة الإنسان وبقائه. بات من الواقع امتلاكُ الشركات العابرة للقارات مصير الإنسان وحقّه في الحياة، وهو ما يحدث حاليًا عبر مفردات هذا الحقّ وأشكاله من مياه وغذاء وسكن وغيرها.

وتعتبر الخصخصةُ جزءٌ لا يتجزّأُ من سياسةٍ أوسعَ هي العولمة التي ترتبطُ بالتوسُّع المتزايد في حركة رأس المال النقدي والاستثماري، وكذلك حركة السلع والخدمات والشعوب والمعلومات. الهدفُ كلُّه هو تحقيقُ الربح لشركاتٍ وجماعات مصالح على حساب جماهير وشعوب صارت تعاني من هذا الصراع بين منظومة حقوقية بلا أسلحةٍ ولا قوةٍ حقيقية، ومنظومة ربحية تجنّد جميع أشكال القوة لصالحها حاضرًا ومستقبلًا، تدعمُها منظومةٌ دوليةٌ جائرةٌ حتّى على مقوّمات البيئة التي يحيا فيها الإنسان، وحكومات محلّية فاسدة ومتسلّطة لا تعبأُ إلا ببقائها في السلطة. فقد كان توسع شركات المياه الخاصة بدعم من البنك الدولي ومؤسسات دولية أخـرى جزءا من سياسات تحويل البلدان النامية والانتقالية إلى اقتصاديات الـسوق .

 وقـد شملت موجة الخصخصة والامتيازات في قطاع المياه بعض البلدان الانتقالية في أوروبا الشرقية كجمهورية التشيك والمجر، وفي أمريكا اللاتينية خاصة الأرجنتين، حيث تم خصخصة سلسلة من المدن الرئيسة منها، وفي آسيا تم خصخصة مـدينتين رئيستين هما مانيلا وجاكارتا، وفي إفريقيا حيث كان قد تم الحصو ل على الامتيـازات في مستعمرات فرنسية سابقة، ومنها ساحل العاج وبعض البلدان في إفريقيـا الجنوبيّة أيضا. وأثناء انعقاد منتدى المياه العالمي في لاهاي عام 2000 ،كان كبـار مـسئولي البنك الدولي يعرضون لخصخصة المياه بوصفها حتمية تاريخيـة، مـستخدمين فـي عرضهم هذا عبارة "لا بديل عن ذلك." وقد أخذت خصخصة المياه والصرف الصحي أشكالاً خطيرة لكنهـا احتـوت علـى عنصر ثابت من تحويل السيطرة على العمليات وإداراتها إلى شركات خاصة، بحيـث تجعلها مصادر لحصد أرباح الرأسمال الخاص . وفي المملكة المتحدة تم البيع الكامـل لقطاع المياه إلى شركات خاصة، وكذلك في أماكن أخـرى تـم التـرويج لـشكل مـن الخصخصة الذي يقوم على منح عقود الامتياز، أو التأجير، أو عقود الإدارة أو أشكال خاصة من الامتياز لمحطات المعالجة أو تجميع المياه، والمعروفة باسـم منظومـات "البناء والتشغيل ونقل الملكيّة (BOT). لذلك شهدت المناطق المناهضة للخصخصة أشكال تنظمية متعددة لوقف نزيف الافتقار وحالات العوز وطرح بدائل وطنية تقوم على مراعاة حقوق الشعوب.[4] ومع معاناة الدولة من أزمة مالية، نجد الهيئات المقرضة تسعى إلـى التـأثير علـى سياسات الحكومة وهو الوضع الذي ازداد سوءا خاصة في سياق العولمة. فكثير مـن الدعم الوارد من الجهات المانحة يكون مشروطًا بمثل تلك "الإصلاحات" التـي فـي حقيقة الأمر ما هي إلا "انسحاب الحكومة من القطاعات الخدماتية ". فالدولة ليس لـديها الخيار بل عليها أن تتبع مثل هذه الأوامر التي تحمل في طيّاتها مبادئ الخصخصة ولا يبقي للشعب سوى النضال وتراصّ الصفوف من أجل إنفاذ الحق في الماء والحق في الحياة.

 

 

[1]التعليق العام رقم 15 لجنة الامم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية

[2] تقرير لجنة المالية والتخطيط والتنمية 2017

[3] الشبكة الدولية للجنة من اجل الغاء الديون غير الشرعية المياه .. من حقّ الجميع إلى مَورِدٍ في أيدي المُهيمِنين دورُ الشركات عابرة القوميات والمؤسّسات المالية الدولية

[4] استعادة الملكية العامة للمياه

انشرها على